نظام الحسبة
في الإسلام
الحمد لله رب العالمين الذي أنزل على عبده الكتاب بالقسط ولم يجعل له عوجا، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام
المجاهدين محمد e الذي صدع بالحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة
صابرا محتسبا ابتغاء مرضاة الله تعالى فصل
اللهم وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه في الدعوة إلى الله تعالى على بصيرة
وهدي القرآن الكريم ونهج النبوة القويم.
وبعد، الحسبة لها دور فعال في صيانة الشريعة الإسلامية
وحفظها، فمفهوم الحسبة في الإسلام ولاية دينية يقوم ولي الأمر-الحاكم- بمقتضاها بتعيين من يتولى
دور الأمر بالمعروف، إذا أظهر الناس تركه، والنهي عن المنكر إذا أظهر الناس فعله،
حماية للمجتمع من الانحراف، وصيانة للدين من الضياع، وتحقيقا لمصالح الناس الدينية
والدنيوية وفقا لشرع الله تعالى.
ومن المعلوم
أن الإسلام لم يفرض نظما مفصلة تحكم نشاطات الحياة المختلفة سواء بالنسبة لنظام
الحكم على أهمية القصوى، أو بالنسبة لغيره من الأنظمة السياسية أو الاقتصادية أو
الاجتماعية، وإنما اقتصر دوره على ذكر القواعد والمبادئ الحاكمة وترك مجال التنفيذ
خاضعا للاجتهاد، مراعاة لما يطرأ على المجتماعات من مستجدات وما يطرأ من مشكلات،
وتوسعة على الأمة في مراعاة المصالح
والملاءمة.
فنظام الحسبة
في الإسلام لم يشذ عن هذه القاعدة فما هو إلا واحد من هذه الأنظمة التي عرف
أساسها منذ العهد النبوي[1]،
ومن هذا المنطلق، في هذا البحث بإذن الله سأتناول هذا الموضوع بثلاثة فصول وفي تحت
كل فصل ثلاثة مباحث والله ولي التوفيق.
الفصل الأول
المبحث الأول: سأتناول معنى الحسبة لغة واصطلاحا
وملاحظات.
الحسبة
في اللغة: فقد جاء في (لسان العرب) الحسبة مصدر احتسابك الأجر على الله، تقول:
فعلته حسبة، واحتسب فيه احتسابًا، والاحتساب طلب الأجر، والاسم الحسبة بالكسر وهو
الأجر، واحتسب فلان ابنًا له أو ابنة له إذا مات وهو كبير، وافترط فرطًا إذا مات
له ولد صغير لم يبلغ الحلم, وفي الحديث: ((من مات له ولدًا فاحتسبه)) أي: احتسب
الأجر بصبره على مصيبته به، ومعناه: اعتد مصيبته به في جملة بلايا الله التي يثاب
على الصبر عليها، واحتسب بكذا أجرًا عند الله والجمع الحسب, وفي الحديث الذي رواه الشيخان ((من صام رمضان إيمانًا
واحتسابًا)) [2]
أي: طلبًا لوجه الله تعالى وثوابه.
أما تعريف الحسبة فقد تناولها
العديد من الفقهاء المسلمين، فقال عنها الإمام أبو الحسن الماوردي: أي أمر
بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله[3] و
مثله قال الشيرازي: أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر، إذا ظهر فعله
وإصلاح بين الناس[4]
ملاحظات :
هذان التعريفان جامعان من التعاريف الأخرى التي قدمها العلماء حول الحسبة،لأنهما
يشملان مجمل ما يقوم به المحتسب، ألا أنهما لا يمنعان دخول ولايات أخرى في العمل
على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبناء على ذلك قال ابن تيمية: أما المحتسب فله الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، مما ليس من خصائص الولاة والقضاة و أهل الديوان ونحوهم[5]
المبحث الثاني : أوصاف الحسبة لدى
العلماء متعددة ووسائل دفع المنكرات.
أولا : فئة من العلماء وصفها بوظيفة إدارية أو رقابة
إدارية؛ لتعلق واجب الحسبة بمراقبة الأسواق والطرقات، وما إليها، لأنها رقابة
إدارية، تقوم بها الدولة، على نشاط الأفراد في مجال الأخلاق والدين،والاقتصاد
تحقيقا للعدل والفضيلة وفق مبادئ الإسلام.
ثانيا : وفئة من العلماء وصف الحسبة بوظيفة دينية،
لتعلقها بالأمور الدينية، وإنها قربى إلى الله تعالى، سواء تولاها محتسب أم قام
بها متطوع. كما عرفها ابن خلدون ((من باب الأمر بامعروف والنهي عن المنكر))[6]،
وعرفها الشيخ علي الخفيف، بأنها ((ولاية شرعية و وظيفية دينية))[7]
ثالثا : ومنهم من وصف الحسبة بوظيفة اجتماعية، لتعلقها
بالأخلاق، وصلة الرحم، والصلح بين المتخاصمين، والإحسان إلى الفقراء، ونشر العلم،
بما أن الغية من الحسبة، إقامة مجتمع إسلامي تكون فيه كلمة الله هي العليا.[8]
رابعا : ومنهم من وصف الحسبة، بوظيفة بوليسية، بناء هي
تراقب الآداب العامة والنظام العام، وحماية المجتمع عن الانحراف، والمفاسد كما
عرفها العشماوي في الاتهام الفردي، بقوله : إن ولاية الحسبة على النحو الذي عرفتها
به الشريعة الإسلامية وطبقتها، هي نوع من الهيئات ذات الولاية البوليسية، القائمة
في بعض النظم الحديثة[9]
وقد حصر بعض الفقهاء وسائل دفع المنكرات في الآتي :
1- شرح المنكر للناس .
2-
النهي بالنصح والوعظ.
3-
النهي بالقول الغليظ .
4-
التغيير باليد لذات المنكر .
5-التهديد
والتخويف .
6-
مباشرة الضرب .
7-الاستعانة
بالغير .[10]
المبحث الثالث : سند الحسبة من الشرع
أولا:
أدلة من القرآن على وجوبها، أي الآيات التي تدل على الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، وفي هذا الصدد آيات كثيرة، نذكر منها قوله تعالى: ((ولتكن منكم أمة يدعون
إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون))[11]
تدل هذه الآية على أنها واجب شرعي وليس مجرد حق أو رخصة.
الحاكم في نظام الحكم الإسلامي مسؤل
بحكم ولايته عن الأمور الثلاثة التي اشتملت عليها الآية المذكورة.
1.
الدعوة
إلى الخير.
2.
القيام
بالمعروف والأمربه.
3.
النهي
عن المنكر وهو كل محذورالوقوع فيه.
ثانيا
: دليل من السنة، ولم يشذ هدي النبي صلى الله عليه وسلم عن مسلك القرآن في الحسبة
ولقد تضافرت أحاديث كثيرة في هذه المناسبة. وبها استدل بعض العلماء أنها واجبة،
وعد البعض تركها كبيرة وهو الراجح بين العلماء. روى مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي
الله عنه تعالى عن الرسول صلى الله عليه وسلم(( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده،
فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطيع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان[12]
ملاحظات
: الحديث يدل على وجوب تغيير المنكر، ففيه دليل على وجوبه صريحا، ويقول الإمام
محمده(( فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر من فريضة الحج، ولم يشترط فيه
الاستطاعة لأنها مستطاعة دائما ))[13]
ذكر
الغزالي في الإحياء(( أنه لا يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ولا حضور المواضيع التي
يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره. ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة
لمشاهداتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير))[14]
ثالثا
: أجمعت الأمة الإسلامية في جميع عصورها على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، استنادا إلى الأدلة التي قدمنا طرفا منها. وذهب بعض العلماء إلى وجوبها
عقلا لا شرعا، وأن النصوص الواردة في الكتاب والسنة والمثبتة لهذا الوجوب، إنما هي
مرشدة إلى حكم العقل، ومؤكدة لها[15]
الفصل
الثاني
: فرضية الحسبة شروط المحتسب.
المبحث الأول : أحوال الحسبة من حيث وجوبها بالنسبة
للمتطوع بها.
ومن المعلوم أن الحسبة بالنسبة للمتطوع فرض كفاية،
واشترط الفقهاء في ذلك شرطين.
أولا : أن تكون الحسبة مثمرة.
ثانيا : و أن يأمن المتصدي للحسبة على نفسه أو ماله أو
أهله من الضرر.
وقد تكلم الإمام الغزالي عن هذين الشرطين وأورد في شأن
هذا الموضوع أربعة أحوال.
1.
يجتمع فيها معنيان سابقان : بأن يعلم المحتسب أنه لا
ينفع كلامه، ويضرب إن تكلم؛ فلا تجب عليه.
2.
ينتفي معنيان جميعا: بأن يعلم أن المنكر يزول بكلامه ولا
يصيبه مكروه؛ فتجب عليه.
3.
أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره، لكن يخاف مكروها، فلا تجب
عليه الحسبة.
4.
أن يعلم أنه يصاب بمكروه، ولكن يبطل المنكر بفعله في هذه
الصورة تستحب له.
ملاحظة :
يرى الإمام الغزالي، أن الظن الغالب يأحذ حكم
اللعلم، والفرق عند تعرض الظن واليقين، حيث يرجح العلم اليقيني[16]
ومن أهم شروط الحسبة:
1.
أن يكون مسلما
2.
أن يكون حرا
3.
أن يكون عاقلا
4.
أن يكون عادلا
5.
أن يكون قادرا[17]
المبحث الثاني : طبيعة الحسبة ومكانتها.
إن الولاية التي
يصدر عنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولاية شرعية، أضفاها الشارع على كل من
أوجبها عليه وطلب منه القيام بها. ولذا كانت لكل مكلف، لا فرق بين حاكم ومحكوم.
وهي ولاية أصلية مستحدثة من الشارع، وهي الولاية التي اقتضاها التكليف بها، لكل من
طلبت منه.
أما ولاية
الخليفة، أو الحاكم، فتنتظمها بحكم أنها ولاية عامة، ولذا كان الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر بالنسبة إليها فرض عين. أما الولاية المستمدة من عهد إليه في ذلك
من االخليفة أو الأمير بنص من الدستور في الفقه الحديث، فردا كان أم شخصا معنويا وهو المحتسب.
ويكون الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة عليه فرض عين، بحكم منصبه، أو تكليفه الدستوري
ووجوب قيامه به، ومثل ذلك ولاية مجلس الشعب الرقابية، على السلطة التنفيذية في
زماننا الحاضر.
بناء فيما
سبق نستطيع أن نقول أن المحتسب يكون جامعا بين الولايتين، الولاية الشرعية
والولاية المستمدة كما أنه مكلف من فبل الشارع، ومكلف بها كذلك من قبل الدولة.
ملاحظة : ذهب
الجمهور من الفقهاء أن الحسبة وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض
الكفاية، قال ابن تيمية: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد
بعينه، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن بقوله تعالى (( فاتقوا الله ما
استطعتم))[18]
كما يقول شيخ الإسلام: القدرة هي سلطان بالولاية، فذوو السلطان أقدر من غيرهم وعليهم من الوجوب ما ليس على غيرهم، فإن مناط
الوجوب هو القدرة.[19]
وذكر الإمام الغزالي في الإحياء: ( إنه فرض كفاية لا
فرض عين، وإنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين، وإن تقاعد عن الخلق أجمعون عم
الحرج كافة القادرين عليه لامحالة)[20]
المبحث الثالث: اختصاصات الحسبة .
من تعريف
الحسبة السابق يتبين لنا أن المحتسب لا يتعرض إلا للمنكرات الظاهرة، أو في حالة التقاعس
عن فعل المعروف. ومعنى هذا أن لا ينقب ويتحرى للبحث عن المنكر، وإنما يجب عليه
التدخل إذا رآه ظاهرا أمامه، ويعمل على
إزالته، كما أنه ليس من صلاحية التحقيق،أو سماع الشهود في حالات التجاحد، ووإنما
ذلك من صلاحيات القاضي.
هذا قد رتب
الفقهاء ولاية الحسبة في المرتبة الثالثة من التسلسل الهرمي للولايات الإسلامية في
هذا المبدأ، وهذا تأتي بعد القضاء الذي يكون في مرتبة أقل عن ولاية المظالم. أما
أمره في الأمور البسيطة التي لا تحتاج إلى تحقيق أو تحري أو سماع شهادات أو بينات،
وإنما ذلك من صلاحيات القاضي.
أوجه الاتفاق بين الحسبة وولاية المظالم :
أولا : أن كلا منهما موضوع للرهبة والغلظة؛ حيث
أن كلا من والي الحسبة ووالي المظالم يكونان على جانب كبير من الهيبة والشدة على
المفسدين والعصاة والظلمة.ولولا ذلك لم يتم الغرض المطلوب.
ثانيا : أن
لكل من والي الحسبة ووالي المظالم، أن يتعرض للفسادوالعدوان الظاهر فيقوم بانكاره
وإزالته حتى ولو بدون استعداد.
أما أوجه الاختلاف بينهما:
أولا: أن
ولاية المظالم وضعت للنظر فيما عجز عنه القاضي، بينما ولاية الحسبة لا تقوم إلا
بما رفه عن القاضي، وذلك للتفرفيه عنهم، وإفساح أوقاتهم و تيسير أمورهم.[21]
الفصل الثالث : في عرض الفروق، ونشئة الحسبة وفوائدها.
المبحث الأول : الفرق بين المحتسب المتطوع والمحتسب
المتعين.
أحدها : القيام
بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض متعين على المحتسب المعين
بحكم الولاية ، وفرض على المتطوع داخل في فروض الكفاية .
الثاني : قيام المحتسب
المعين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من الحقوق الواجبة عليه ولا يجوز أن يتشاغل عنها وقيام المحتسب المتطوع بها
من نوافل عمله الذي يجوز أن يتشاغل عنه بغيره .
الثالث : المحتسب
المعين منصوب للاستعداء إليه فيما يجب إنكاره وليس المحتسب المتطوع منصوبا
للاستعداء .
الرابع : يجب على
المحتسب المعين إجابة من استعداه ،وليس على المتطوع إجابته .
الخامس : يجب على
المحتسب المعين أن يبحث عن المنكرات الظاهرة ، ليصل إلى إنكارها ويفحص عما ترك من المعروف الظاهر ، ليأمر
بإقامته ، وليس على غيره من المتطوعة بحث ولا فحص .
السادس : يجوز للمحتسب
المعين أن يتخذ على الإنكار أعوانا ؛ لأنه عمل هوله منصوب، وإليه مندوب ليكون له
أقهر وعليه أقدر وليس للمحتسب المتطوع أن يندب لذلك أعوانا .
السابع : المحتسب
المعين له أن يعزر على المنكرات الظاهرة ولا يتجاوزها إلى الحدود ، أما المحتسب
المتطوع فليس له أن يوقع عقوبة تعزيرية على منكر تم ارتكابه .
الثامن : الاحتساب
بالنسبة للمحتسب المعين يعتبر وظيفة يتقاضى عنه راتبا من الدولة أو بعبارة
الماوردي : له أن يرتزق على الحسبة من بيت المال ولا يجوز للمحتسب المتطوع أن
يرتزق على إنكار المنكر .
التاسع : المحتسب
المعين له اجتهاد رأيه فيما يتعلق بالعرف دون الشرع وليس هذا للمحتسب المتطوع.[22]
ملاحظة : وبهذه الوجوه فرقوا بين الحسبة العمومية والحسبة الخاصة على أن هذه
الفروق التي اجتهد الإمام الماوردي في تحديدها, منها ما للزمان والمكان فيه
اعتبار,ومنها ما يلزم النظر إليه بالتوازي مع متغيرات النظام في الدولة الإسلامية
وبخاصة في تقلبات الأوضاع وتعدد المؤثرات والعلاقات مع اعتبار لمسألة التوازن في
الحياة العملية حيث تتأكد الصبغة العمومية
للحسبة إذا تدنت درجة الاهتمام بها من قبل أجهزة الدولة في المجتمع الإسلامي.
المبحث
الثاني : نشئة الحسبة في التاريخ الإسلامي.
إن
الواقع التاريخي والتشريعي لعمل المحتسب يبيِّن أن الحسبة نظام إسلامي أصيل بدأ مع
نزول النصوص الشرعية التي جاءت تأمر وتحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، ونظام الحسبة هو الجهاز الرقابي الذي بدأ العمل به في تاريخنا الإسلامي؛
للنهوض بمستوى المجتمع الإسلامي دينيًّا، وحضاريًّا، وأخلاقيًّا، وإداريًّا،
وتربويًّا، وصحيًّا، ويرجع ذلك على عصر النبوة؛ حيث تولاها النبي -صلى الله عليه
وسل م- بنفسه، وفعلها خلفاؤه من بعده إلى أن أصبحت من النظم الإسلامية الأساسية في
حكومة المسلمين.
ولذا
نجزم بأن فكرة الحسبة بالمفهوم الفعلي قد ابتدأت مع البدايات الأولى لنشأة المجتمع
الإسلامي في المدينة النبوية؛ حيث كان من حق أي مسلم أن يمارس الحسبة فيأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكن هل الحسبة بشكلها الإداري المنظم بدأت بنشأة أول
حكومة إسلامية، أي: في عهد النبي -صلى الله عليه وسل م- أم بعد ذلك؟
يرى بعض المؤرخين أن الحسبة كنظام حكومي من الوظائف التي نشأت في العصر العباسي، فقد ذكر الطبري في أحداث عامة مائة وستة وأربعين حين ولى المنصور أبا زكريا يحيى بن عبد الله حسبة بغداد في الأسواق سنة مائة وسبع وخمسين، وهناك رأي يقول: إنه ربما حدث ذلك التنظيم للحسبة في العهد الأموي، لكن هذا القول فيما نعلم لا يستند إلى ما يُوثقه، أما تنظيمها كولاية في العهد العباسي، فهذا شيء مؤكد.
وكذلك بعض الناس شككوا في نظام الحسبة أنه من
اليونان أو الرومان:
بالتحقيق الحسبة نظام إسلامي أصيل بدأ مع نزول النصوص
الشرعية التي جاءت تأمر وتحث على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تولاها
النبي -صلى الله عليه وسل م- بنفسه وفعلها خلفاؤه من بعده إلى أن أصبحت من النظم
الإسلامية الأساسية في حكومة المسلمين.
الحسبة
في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-
وها نحن نورد باختصار شيئًا من الحسبة في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعهد خلفائه الراشدين الأربعة -رضي الله عنهم أجمعين- فنقول: لقد بدأت الحسبة في عهده -صلى الله عليه وسلم- بشكل فردي تتطوعي لا تديره ولاية، ولا يتم عن طريق تنظيم معين، فالحسبة كغيرها من أعمال وخطط الحكومة النبوية في المدنية النبوية، وفي بداية تأسيسها تدار بشكل فردي. وهذا شيء بدهي لكيان يتشكل ودولة تؤسس، فبالمحتسب الفرد بدأ نظام الحسبة، خاصة وأن نظام الحسبة لا يرتبط بنشوء الدولة؛ بل مارسها المسلمون منذ فجر الدعوة الإسلامية على وحي من النصوص التي جاءت تحث على القيام بها.
ذلك لأن الحسبة من الأمور الهامة والضرورية لأي مجتمع يتطلع إلى أن يسود بين أفراده الصلاح والفضيلة؛ إذ بدونها -أي: الحسبة- لا يمكن أن يحافظ على تطبيق شرائع الإسلام بين أفراد الأمة، وعلى هذا فإن وجود الحسبة لا يتوقف على قيام الدولة ذات الكيان السياسي، وإنما الحسبة توجد أينما وُجد مسلمان فأكثر؛ لأن الحسبة هي النصيحة، والنصيحة بين المسلمين مطلوبة ومأمور بها شرعًا. ألم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((الدين النصيحة))، ويقول -عليه الصلاة والسلام-: ((المؤمن مرآة أخيه))،
فبالحسبة الفعلية أنه ((مر يومًا على سوق المدينة،
فوجد صاحب طعام يبيع، وكان قد أخفى الطعام المبتل بالماء داخل الطعام، فمدَّ النبي
-صلى الله عليه وسلم- يده في الطعام ووجد البلل، فقال لصاحب الطعام: ما هذا؟ قال:
لقد أصابته السماء يا رسول الله -أي: نزل عليه المطر- فقال
-عليه الصلاة والسلام-: أفلا جعلته في أعلى الطعام حتى يراه الناس، من غشنا فليس
منَّا))،
فهذه
صورة من صور احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق.
وصور احتسابه كثيرة جدًّا، بل كل ما أسداه للأمة، ووجهها إليها من خير وإن كان تكليفًا من ربه -عز وجل- فهو صور حسبية، لكن من أمثلة احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن الناس كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهده -صلى الله عليه وسلم- فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث تباع الأطعمة"[23]
وصور احتسابه كثيرة جدًّا، بل كل ما أسداه للأمة، ووجهها إليها من خير وإن كان تكليفًا من ربه -عز وجل- فهو صور حسبية، لكن من أمثلة احتسابه -صلى الله عليه وسلم- في الأسواق ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: "أن الناس كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهده -صلى الله عليه وسلم- فبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث تباع الأطعمة"[23]
المبحث
الثالث : في أهمية الحسبة
يهدف الإسلام إلى خلق مجتمع آمن مستقر تسوده المحبة ويجتمع أفراده في التعاون على البر والتقوى، حتى يتمكن الجميع من القيام بواجب الخلافة في الأرض وتحقيق الغاية الأساسية من خلق الإنسان وهي عبادة الله تعالى، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولأن الناس محتاجون دائما إلى نظام يسيرون على هديه، وسلطة تحرص على تحقيق هذا النظام في حياة الناس، لزم أن يكون هناك من يذكر الناس بذلك ويتابع التزامهم به، ومن هنا جاءت أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
مجالات
الحسبة :
يقوم
نظام الحسبة في جوهره على حماية محارم الله تعالى أن تنتهك، وصيانة أعراض الناس،
والمحافظة على المرافق العامة والأمن العام للمجتمع، إضافة إلى الإشراف العام على
الأسواق وأصحاب الحرف والصناعات وإلزامهم بضوابط الشرع في أعمالهم، ومتابعة مدى
التزامهم بمقاييس الجودة في إنتاجهم، وكل ذلك يتم بالتنسيق مع الجهات ذات الاختصاص
من وزارات ومؤسسات وغيرها.
غايات
الحسبة :
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بتحصيل المصالح
وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين، وتدفع شر الشرين،
وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدين باحتمال أدناهما. وقد
أمر الله تعالى عباده بأن يبذلوا غاية وسعهم في التزام الأصلح فالأصلح - واجتناب
الأفسد فالأفسد، وهذا هو الأساس الأكبر في التشريع الإسلامي[24]
دور الإعلام في الحسبة:
أن من أهم
المجالات التي يمكن أن ترسخ مفاهيم الحسبة هما مجال التربية والإعلام فإنّ الإعلام
في الإطار الإسلامي يهدف إلى نقل رسالة الإسلام بكلّ مضامينها ، ورقابة الحسبة على
الوسيلة الإعلاميّة بمختلف أنواعها إنما تعني منع كلّ ما يتنافى مع الأخلاق
والآداب والقيم الإسلاميّة ، وقد يجد الكاتب والقارئ في كتب الحسبة التطبيقية
والنظريّة قواعد عديدة في ضبط السلوك الإعلامي ،ولكن كما يقول أحد الباحثين "ونحن
- في عصرنا الحاضر- عصر التخطيط والتنظيم والبراعة الأسلوبية ليس بوسعنا أن نقوم
بعملية الإصلاح والتغيير الاجتماعي ونقاوم وسائل الفساد والغزو الحضاري المعادي
للإسلام ، إلا بالأسلوب المتفوق وبالطريقة المتقنة الفعّالة ، لتكون الدعوة إلى
التغيير والقيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائمة على أساس من الوضوح
والبصيرة وبوعي وحكمة " [25]
عملاً بقوله تعالى : }
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ{[26]
وفي نهاية المطاف سأذكر ما توصلتها
إليها في هذا السير المبارك.إن نظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في
الشريعة الإسلامية يعد وظيفة أساسية للرسول صلى الله عليه وسلم ولجميع أفراد أمته
من بعده، ذلك لما له من أهمية قصوى في الحفاظ على الكيان الاجتماعي للمسلمين، فهو
الوسيلة الأولى لتحقيق خلافة الإنسان على الأرض وإصلاحها للبشرية جمعاء، لذا فقد
وضع له الإسلام أسسا تضمن فعاليته في المجتمع ويمكن إجمال تلك الأسس:
1 - إن الله تعالى جعل ذلك واجبا دينيا على كل فرد من أفراد المجتمع بحسب موقعه وقدرته. قال الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104]
2 - إضافة إلى كونه واجبا على الأفراد، فقد جعله الله تعالى واجبا دينيا ومهمة أساسية للدولة المسلمة، تتوقف صلاحيتها للاستمرار في قيادة الأمة على القيام بهذا الواجب، قال الله تعالى: (لَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَر)[27]
3 - لكي تتحد مسؤولية الدولة عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقد وضع له نظاما محددا وولاية خاصة هي ولاية الحسبة.
4 - حتى تزداد فعالية هذا الواجب -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -فقد ربط الشرع بين مهمته ورعاية مصالح الناس، حيث جعل الغاية منه تحقيق ما يصلح للناس معاشهم ومعادهم بالحفاظ على المنافع وتنميتها ومحاربة المضار وإخمادها. لذا قال الله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}[28]
5 - أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب
على الأفراد، وحتى يمتثل الأفراد لهذا الواجب، فقد ربطه الله تعالى بالوعد
والوعيد، فوعد من قام به بالثواب الجزيل في الدنيا والآخرة.
هذا ما تجلى عندي في هذا البحث اللطيف والله ولي التوفيق
المصادر :
1.
شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية،(661-728هـ)
الحسبة في الإسلام، بتحقيق سيد بن محمد بن أبي سعدة، دار النشر مكتبة دار الأرقم
بيروت، الطبعة الأولى 1983م
2.
محمد بن محمد بن أحمد بن أبي زيد بن الأخوة
القرشي،(648-729هـ) معالم القربة في أحكام
الحسبة،بتحقيق محمود محمود شعبان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1976م
3.
عبد الرحمن بن نصر بن عبد الله الشيرازي
الشافعي، ،نهاية الرتبة في طلب الحسبة، بتحقيق ابن بسام المحتسب، مطبعة المعارف،
بغداد 1968م
4.
أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري
البغدادي، الشهير بالماوردي،(364-450هـ)، الأحكام السلطانية، تحقيق مركز الدراسات
الفقهية، الناشر البنك الكويتي 2006م
5.
أبو حامد محمد الغزالي الطوسي الشافعي الشهير
بحجة الإسلام(450-505هـ) إحياء علوم الدين، دار المعرفة، بيروت 1965م
المراجع :
1.
فريد غبد الخالق، الحسبة في الإسلام على ذوي
الجاه والسلطان،درا الشروق، القاهرة الطلبعة الأولى 2011
2.
د . محمد كمال الدين إمام، أصول الحسبة في
الإسلام دراسة تأصيلية مقارنة، دار الهداية مدينة نصر الطبعة الأولى 1986م
3.
سعد بن عبد الله بن سعد العريفي، الحسبة
والنيابة العامة دراسة مقارنة، دار الرشد للنشر والتوزيع، الرياض، الطبعة الأولى
1407هـ
4.
عبد المعز بن عبد الستار، الحسبة، دار الحديث،
القاهرة2010م
5.
عبد المحمود، الحسبة في لإسلام، مكتبة النهضة
العربية، بيروت 1993م
الفهرس